لا تفصلنا سوى أيام عن الاستفتاء على عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، وهناك خوفان يتصارعان: خوف من خسارة الوظائف إذا غادرت بريطانيا، وخوف من ارتفاع معدلات الهجرة إذا بقيت. وتعكس عناوين الأخبار عدم اتساق الدولة مع ذاتها، فهي محتجزة بين ما وصفه وزير الخارجية الأميركي الأسبق «دين آتشيسون» ذات مرة بماضيها الاستعماري الذي تجد من الصعب التخلي عنه، ودورها المستقبلي الذي تتردد في قبوله. وقد زعم «آتشيسون» أن سبل بريطانيا للتأثير في العالم «باتت مسدودة»، ولم يعد هناك سوى طريق واحد: المشاركة الإيجابية مع أوروبا. واليوم، بعد أكثر من 40 عاماً على عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، تحاول الحملة الداعية إلى «المغادرة» اختزال رؤية بريطانيا في أن مصلحتها الوطنية عندما تقف بمفردها وتخرج من السباق وتصبح جزيرة منكفئة على ذاتها. ويود المعسكر المؤيد «للبقاء» في الاتحاد الأوروبي الحديث عن انفتاح بريطانيا على الخارج بوصفها قلب أوروبا. بيد أن وزراء الحكومة «المحافظة»، الذين يخضعون لضغوط من المتشككين في أوروبا داخل حزبهم، يجدون من الصعب الإفلات من المناخ السلبي. وخلال معظم حملتهم، دافعوا عن عضوية الاتحاد الأوروبي باعتبارها أخف الضررين. لكن لم يفت أوان الدفاع بإيجابية عن مستقبل بريطانيا في أوروبا. ولعل استفتاء اسكتلندا على الاستقلال عام 2014 يمثل رسالة تذكير حول مخاطر السلبية المفرطة. وتطلب إعادة تأكيد وضع اسكتلندا كجزء من المملكة المتحدة رؤية وطنية وخطاباً إيجابياً متطلعاً للأمام. ولا ينبغي أن تتعارض الوطنية مع الحقائق المعاصرة. ففي عالم تعتمد فيه كل الدول على بعضها البعض، على كل دولة أن تفرض توازناً بين استقلالها الذي تريده والتعاون الذي تحتاجه. وفي الاتحاد الأوروبي، يمكن أن تلعب بريطانيا دوراً بناء من دون إخضاع هويتها للدولة العظمى الأوروبية أو التقهقر نحو ذهنية «إنجلترا المحدودة». نحن نفخر بالاستثنائية البريطانية، ونبدي كبرياء وطنياً ونعارض الرسالة المشككة في أوروبا عندما نضع أنفسنا في طليعة راسمي مستقبل القارة. وأوروبا بأمس الحاجة إلى اتجاه. وقال البابا «فرانسيس» إن «الأفكار العظيمة التي ألهمت أوروبا في الماضي يبدو أنها فقدت جاذبيتها، لتحل محلها التفاصيل البيروقراطية للمؤسسات». وقد تساعد أجندة تلهمها بريطانيا في تجديد الروح القارية وتعزيز الاتحاد الذي يحتاجه المجتمع الدولي: فأوروبا العالمية لم تعد قاصرة على استيعاب ذاتها والنظر إلى الداخل، ولكن تركز على بناء علاقات دبلوماسية وتجارية مثمرة وقوية في ربوع العالم. ولنأخذ مشكلة الإرهاب مثلا، فالعمليات الدولية التي شنها «داعش» لا يمكن مواجهتها إلا من خلال تنسيق وتعاون أمني عابر للحدود. وبريطانيا موطن لواحدة من أكثر وكالات المخابرات احتراماً في العالم، ما يؤهلها لقيادة جهود أوروبية أكثر احترافية على صعيد المراقبة وتبادل المعلومات. وتاريخ انفتاح بريطانيا على الشرق الأوسط وأفريقيا يؤهلها لتشكيل رؤية معاصرة لـ«خطة مارشال» بقيادة أوروبية تجمع بين الدبلوماسية والمساعدات والحوافز الاقتصادية لمعالجة الاضطراب في هذه المناطق. وبينما تواجه أوروبا أكبر أزماتها الإنسانية منذ عام 1945 مع تدفق المهاجرين واللاجئين، عليها أن تساعد الاتحاد على أن يقدم لدول الجوار فرصاً في مجالات التعليم والاقتصاد وريادة الأعمال. بحيث يمكن للسكان من الشباب أن يحصلوا على مستقبل لا ينحصر بين الطغيان والإرهاب. ومن خلال الشجاعة البريطانية، يمكن لأوروبا قيادة العالم في مواجهة التغير المناخي. وتحتاج القارة إلى خفض اعتمادها على روسيا في الحصول على الطاقة. لذا، ثمة حاجة إلى إصلاح سوق الطاقة الأوروبية، واستعادة روح ما بعد الحرب، لتمكن الاستفادة من الرياح البريطانية وقوة الأمواج ودمجها في شبكة طاقة قارية منخفضة الكربون. وبعد ثمانية أعوام على بداية الأزمة المالية العالمية، لا يزال الاقتصاد الأوروبي يسير ببطء، مع استقرار متوسط معدلات البطالة عند 10%، وانعدام النمو تقريباً خلال السنوات الست التي أعقبت الركود. وعندما كنت وزيراً للخزانة، عارضت انضمام بريطانيا للعملة الأوروبية الموحدة، والتي رأيتها عقبة أمام النمو. لكني أثق بشدة في أن بريطانيا الرائدة في السوق يمكن أن تلعب دوراً محورياً في الإنعاش الاقتصادي الأوروبي. ويمكن أن تصبح بريطانيا محركاً للنمو العالمي مرة أخرى إذا فتحت ما لديها من تكنولوجيا رقمية ومعلوماتية وصناعات خدمية أمام المنافسة عبر القارة، ووحدت أبرز العقول العلمية والأكاديمية في الاتحاد لإنشاء أكبر محور أبحاث في العالم. يُنشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»